الدفّة النسائية.. صناعة عريقة تقاوم الاندثار
في أعماق التراث الثقافي العراقي والشرق أوسطي، تبرز صناعة الدفّة النسائية كرمز للإرث اليدوي القديم الذي يواجه تحديات العصر الحديث. غالبًا ما يُشير مصطلح “الدفّة” إلى نوع من الخبز المحمص، المعروف أيضًا بـ”الدفينة”، الذي يعود تاريخه إلى آلاف السنين، ويُعد جزءًا أساسيًا من الثقافة اليومية، خاصة في المناطق الريفية والقروية. هذه الصناعة، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنساء، تمثل قصة مقاومة للاندثار في وجه التغييرات الاجتماعية والتكنولوجية. في هذا المقال، نستعرض تاريخ هذه الصناعة، أهميتها، والتحديات التي تواجهها، لنبرز كيف تستمر في الحياة رغم كل شيء.
تاريخ عريق يمتد إلى العصور القديمة
ترجع أصول صناعة الدفّة إلى العصور الفرعونية والآشورية في بلاد الرافدين، حيث كان الخبز المحمص يُصنع يدويًا كغذاء أساسي للعائلات. الدفّة، وهي عبارة عن خبز مملح ومقرمش، غالبًا ما يُخبز في أفران طينية تقليدية، كان يُمثل جزءًا من الوجبات اليومية في المجتمعات الزراعية. مع مرور الزمن، تحولت هذه الصناعة إلى تعبير عن الهوية الثقافية، خاصة في العراق وإيران وسوريا، حيث أصبحت النساء الركيزة الرئيسية في إنتاجها. في الماضي، كانت الدفّة جزءًا من الاحتفالات الاجتماعية، مثل الأعياد والأفراح، حيث تتشارك النساء في عملية التصنيع كرمز للترابط العائلي.
عملية التصنيع: فن يدوي يحتاج إلى مهارة وحنان
صناعة الدفّة عملية يدوية تتطلب مهارة عالية ومواد بسيطة، مثل الدقيق، الملح، الخميرة، والماء. تبدأ بتعجن العجين يدويًا، ثم تركها لترتفع، وأخيرًا خبزها في فرن طيني على درجات حرارة عالية. ما يميز هذه الصناعة هو الطابع النسائي الذي يحيط بها؛ فالنساء، بفضل خبرتهن التراكمية، يضفين لمسة خاصة تجعل كل قطعة من الدفّة تعكس تاريخ العائلة والتقاليد. في بعض المناطق، تُضاف مواد محلية مثل الأعشاب أو التوابل، مما يجعل كل إنتاج فريدًا. هذه العملية ليست مجرد إعداد طعام، بل هي فن ينقل من جيل إلى آخر، حيث تتعلم الفتيات من أمهاتهن وجداتهن أسرار الوصفة التقليدية.
دور النساء: رموز المقاومة الثقافية
في جوهر صناعة الدفّة، تبرز النساء كشخصيات رئيسية. في المجتمعات التقليدية، كن النساء مسؤولات عن إنتاج الغذاء المنزلي، مما جعلهن حارسات للتراث. الدفّة النسائية، كما يُطلق عليها، تعكس قوة المرأة في الحفاظ على التقاليد رغم الضغوط الاجتماعية. ومع ذلك، تواجه هذه الصناعة تحديات جسيمة، مثل انتشار الطعام المصنع والوجبات السريعة، الذي أدى إلى انخفاض الطلب على المنتجات التقليدية. كما أن التغيرات الاقتصادية، مثل الهجرة من الريف إلى المدن، قللت من عدد النساء اللواتي يمارسن هذه الحرفة يوميًا. وفقًا لتقارير منظمات مثل اليونسكو، تهدد هذه العوامل اندثار العديد من الصناعات اليدوية، بما في ذلك صناعة الدفّة.
التحديات والجهود للمقاومة
رغم الخطر الداهم، تقاوم صناعة الدفّة الاندثار من خلال جهود محلية ودولية. في العراق، على سبيل المثال، أقيمت مهرجانات ثقافية تحيي التراث اليدوي، حيث تُعرض الدفّة كجزء من السياحة الثقافية. كما أن بعض المنظمات غير الحكومية تعمل على تدريب الشابات على هذه الحرفة، مما يجعلها مصدر دخل مستدام. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت حملات على وسائل التواصل الاجتماعي لترويج المنتجات التقليدية، مما ساعد في زيادة الوعي بأهمية الحفاظ عليها. ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر هو دمج هذه الصناعة مع العصر الحديث، مثل استخدام تقنيات حديثة لتسهيل الإنتاج دون فقدان الجوهر التقليدي.
خاتمة: نحو مستقبل يحافظ على الإرث
في ظل التسارع التكنولوجي والتغييرات الاجتماعية، تظل صناعة الدفّة النسائية دليلًا حيًا على قدرة التراث على الصمود. هذه الصناعة ليست مجرد طريقة لإعداد الطعام، بل هي جزء من هويتنا الثقافية التي تعزز الترابط الأسري والاجتماعي. لكن لضمان بقائها، يجب علينا جميعًا، كمجتمعات وأفراد، دعم الحرف التقليدية من خلال شراء المنتجات الأصلية والمشاركة في الفعاليات الثقافية. إن الحفاظ على الدفّة النسائية يعني الحفاظ على جزء من تاريخنا، وهو واجب يتطلب التعاون بين الحكومات، المنظمات، والأجيال الشابة. فلنكن جزءًا من هذه المقاومة، فنحن لسنا فقط نحافظ على صناعة، بل على قصة شعوبنا التي تروى عبر القرون.
تعليقات